الرئيسية » » فُزت بهزيمة الجواب | يحيى الشيخ

فُزت بهزيمة الجواب | يحيى الشيخ

Written By Unknown on السبت، 25 يوليو 2015 | 3:32 م

فُزت بهزيمة الجواب
****
صديقي العزيز...
*علّكَ تعرفني جيداً، كم يحرجني المديحُ. لا أتحرج منه فقط، إنما لا أستسيغه. إنه لا يسقط عليّ، إنما خارجي، فأنا أحمل مِظلة واقية من المطر، اسمها التواضع، ومع هذا تتناثر قطراته على حذائي. ليس المطر فقط، إنما كلما يسقط، أتجنبه. عدا الهموم، التي من طبيعتها أنها لا تسقط، إنما تنبثق. وهذا ما ليس لي قدرة على درئه، ولا قدرة على تحمله.
*دعك من همومي، ولا تقلْ، أرجوك، إنك كفيل بها، فهي غير مرئية. ولنظل في موضوع رسالتك: إحجامي عن الكتابة طيلة سنيني الماضية. هل مضت السنين... فأنا لم ألملم نفسي بعد؟ لا أخفي عليك أني أحب ما يخطه قلمي، بالرغم من أغلاطي الفادحة. بالمناسبة مازلتُ أكتبُ بالقلمِ أجملَ مما أكتبُ على الآلة الكاتبة، إنها طقوس المرسمِ، عاداتي اليومية. ولكن هذا الاعتزازُ لا يجيز لي تقبّل ما تسميني به. أعتقد أنها بقايا عواطف، بقت على لسانك لكثرة تناولك فاكهة الحبِ والاشواقِ والحنينِ. فسؤالك لي: "أسألُكَ بالله، لِمَ لا يعودَ الأمسُ إلينا،كما نعودُ إليه؟" يكشف حيرة مريرة، حيرة عابر سبيل إلى جهة مجهولة، فقد ظله وعاد يبحث عنه، فيما الطريق قد غادرت مكانها، وحملت الظل معها. أجيبك على سؤالك: الماضي يعود إلى مكانه دائما، فهو لا يغادره، لأنه ماض. إنه ثابت، إنما نحن الذين نواضب على الرحيل.
لا أخفي عليكَ، أني بدأتُ الكتابةَ بالتزامنِ مع الرسمِ.في صباي كنت أستنسخ كتابات "جبران خليل جبران"، حتى تملّكني الوهم إنها كتابتي. في شبابي كنت في قلب مجموعة ندرت في حياتي. كنا نقرأ ما نكتبُ، وكنتُ أقرأ كتاباتي لهم: بسام الوردي، إبراهيم زاير، فائق حسين، أنور الغساني، شاكر حمد ومؤيدالرواي. هل تذكر كم سمعنا من الموسيقى؟ وفي كل مرة نعيد "شوبان"، وبلا كلل، وبلا أية نية لمغادرة البيت. وكانت أمي، خلف الباب تنتظر جوابي، على سؤالها المُلح: هل آتيكم بالعشاء؟
ــ لا ماما، سنذهب إلى الباب الشرقي.
أكتبُ وأنا أرسمُ. أرسمُ وأنا أكتبُ. أفعلهما معاً وأنا أعيش حياتي.
“*أنت حبيس المحبسين... إذن!" هكذا قال قريني. لم أسمعه، ولم أصدقه؛ أني حبيس المحبسين. تركت الرسم والكتابة... تركتهما لسنوات. ورحتُ أصطاد السمك مثل أجدادي، علّي أحظى في أحشائها على عشبة، آكلها فأخلد.ووجدّتها فعلا، وأكلتها... وفزت بهزيمة الجواب.
*الآن، أنا أكتبُ بقدر ما أرسمُ. بعد أيامِ سأكتبُ أكثرَمما أرسمُ، بعدها لا أفعل شيئاً: لا أكتب ولا أرسم. سآخذ عصاتي، أفتح بها طريقي بين الأدغال، أباعدُ بين الحشائش البرية، أسألُ عن خنافس مقدسة، كنتُ في ضيافتها بالأمس، لكني أضعتُ الطريق اليها. أذكر أني ناكدّتُ واحدة، قلبتُها على ظهرها، وتركتها في مكانها، تلعنني.
*لو تدرك عمق سعادتي، وفخري بنفسي، وأنا أضيعُ، ويتملّكني إحساس: أنا ضائعٌ فعلا؟ الضياع سر وجودي، والكتابة لدي؛ تأكيد غياب. أعرف أن السؤالَ ذلٌ، لكني أذل نفسي من أجل كرامتها، فأسألك: هل تبحث لنا عن طريق يعيدنا إلى حيث بدأنا؟... وهل تعرف الطريق؟ إذن، دعني وشأني!
*معرضي الأخير قائم هذه الايام، هو هديتي إلى نفسي بمناسبة وجودي معكم لسبعين عاما، ولكم لتحملكم ظلي الثقيل. سيكون هذا آخر ما رسمته. ليس في هذا إجحافٌ، فالرسمُ أخذ مني ستين عاماً. أسألك: كمْ ستأخذه الكتابةُ مني...ستين عاماً أيضا؟ ليكن! سأنسجها كما نسجت قبلها، على طريقتي في خلط أوراق اللعب، فأنا كما لا تعرف، مقامر محترف يقاتل من أجل مبادئه السامية: تحقيق أعظم بطولة، اسمها:التبدّد.
أكتبُ يومياً. أكتبُ بلا واعز، كما أكتبُ الآن، لك وإلى من يهمه الأمر:
إلى لؤي حمزة عباس، الذي ألّبَ عليّ قريني،
إلى طالب عبد العزيز، الذي أعادني من حرب أخيه سالماً،
إلى محمد خضير، الذي حبسني في "المملكة السوداء". حفرت تحت أسوارها نفقا، وهربت.
إلى علي نوير، الذي اخترقت رصاصاته قلبي، ونهضت فرحاً،
إلى كاظم الحجاج، الذي ظل يسقيني قهوته المرة، ليلا ؛ فلم أخلد للنوم،
إلى ملهى دخلته في البصرة، وسمعت وحيدة خليل،
إلى أول إمرأة نمت معها،
إلى صلاح فائق، الذي أطلق ذئابه تصطاد الفراشات في حقلي،
إلى فائق حسين، أين أنت يا صديقي؟
إلى فائق حسن، أقول: نعم أستاذي
إلى العمارة، بحُفاتها، وجواميسها، وأهوارها، وزوارقها الرشيقة تشق صدر البردي، تبحث عن قلبي، إلى أسماكها الملتاعة، وصعاليك بلابلها، إلى كلابها السائبة، وانهارها.
إلى السرّية والماجدية والدبيسات... إلى المركب الغرقان في مفترق النهر،
إلى مفترقات الطرق كلها،
إلى سالم المنكوب، ومسعود العمارتلي، اللذان أبقياني رعويا،
إلى أمي التي ماتت بعيدة عن هؤلاء،
إلى الهواء.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.